الوحيد في الظلام: أبو النور الذي فقد العائلة وبقي مع الركام

الوحيد في الظلام: أبو النور الذي فقد العائلة وبقي مع الركام

لا يجيب على السؤال مباشرة. ينظر بعيدًا كمن ينقّب في ذاكرته عن صورة ما زالت تحترق. اسمه أبو النور، رجل ستيني من حيّ الشجاعية في غزة، نجا من قصف دمّر منزله بالكامل، لكنه لم ينجُ من الشعور بأنه وحده.

كنت أصلي العصر… في لحظة، شعرت أن الأرض ارتفعت ثم سقطت، يقول بصوت منخفض. حين فتحت عيني، كنت تحت السقف. لا أسمع شيئًا. لا صراخ، لا أصوات. فقط الركام… وقلبي.

بقي لأكثر من 14 ساعة تحت الأنقاض. لم يكن يصرخ. ما الفائدة؟ من يسمع؟ يقولها بمرارة. حين وصل رجال الإنقاذ، انتشلوه شبه فاقد للوعي. وحين سأل عن زوجته وأبنائه، أُبلغ أن لا أحد منهم نجا.

بعد أسابيع، عاد أبو النور إلى أطلال منزله. ينام اليوم في غرفة مهشّمة السقف، بلا كهرباء، ولا نوافذ. لا أريد أن أذهب إلى مركز إيواء، هذا بيتي، وإن بقي منه جدار واحد، يرد.

أكثر ما يؤلمه الليل. الليل طويل في غزة، وطويل أكثر حين تكون وحدك، لا صوت إلا أنين ذاكرتك، يقولها وهو يربّت على الأرض بجانبه كأنما يسكت شيئًا داخله.

حين زرته، لم يكن يشتكي، بل يحكي، بهدوء يشبه الانهيار الصامت. يقول: كان عندي بنت اسمها آية… تحب قراءة القصص. حين أقلب صفحات الذاكرة، هي أول من يظهر، ثم يصمت.

خطر لي في تلك اللحظة ما قاله محمود درويش:

الذكريات مرايا مكسورة… كلما اقتربنا منها، جرحنا أطرافنا.

يعيش أبو النور اليوم على مساعدات بسيطة من الجيران. يرفض مغادرة المكان. لا أريد بيتًا جديدًا، أريد عائلتي، يكررها ثلاثًا.

في غزة، القصص لا تبدأ وتنتهي، بل تمتد بصمت. كل بيت مهدّم يحمل رجلاً مثل أبي النور، يعيش في العتمة، ليس لأن الكهرباء مقطوعة… بل لأن الأرواح التي كانت تضيء المكان، قد غابت.

قبل أن أغادر، سألته إن كان يحتاج شيئًا. قال: أحتاج أن أتكلم… أن يسمعني أحد. أنا لا أريد أن أموت مرتين: مرة في القصف، ومرة في النسيان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *