ظلال الأمل: مريم التي أنجبت تحت الأنقاض في رفح
لم تكن تعلم مريم أن صباح ذلك اليوم سيغيّر حياتها إلى الأبد. كانت تستعد لزيارة والدتها في حي آخر من رفح، وهي في الشهر التاسع من الحمل، حين دوّت أصوات الطائرات في السماء، تلتها أصوات انفجارات قريبة تُربك الوجدان. تقول بصوت مرتجف: كنت أُحضّر نفسي للخروج حين بدأ القصف، وبدأت السماء تنهار فوقنا.
سقط السقف فوقها وزوجها سامر، وانهار كل شيء دفعة واحدة. استيقظت مريم بين الركام، لا ترى سوى ظلام دامس، وجسدها ينزف، وألم الولادة يمزقها وهي عاجزة عن الحركة. تحاول أن تصرخ، لكن صوتها يخبو تحت غبار الحرب.
كنت وحيدة تمامًا… وكل ما تمنّيته أن أحتضن طفلي، ولو لدقيقة واحدة فقط، قبل أن أموت،
تهمس مريم.
كانت الساعة تمر كدهر. وفي لحظةٍ ما، وبعد صراعٍ بين الألم واليأس، وُلد غيث، طفلها الأول، بين الأنقاض. صرخته الأولى اخترقت الصمت القاتل، وأشعلت في قلبها شعلة من نور وسط هذا الليل المظلم. دموعها سالت رغم الجفاف، فقد التقت الحياة بالموت في لحظة واحدة.
فجأة، شعرت بيدٍ تلمسها… لقد كان سامر، زوجها الذي نجا بأعجوبة، يحاول إخراجها من بين الركام. بعد أيام قليلة، استطاعا الهروب إلى الأردن، لكن الجراح لم تغادر. مريم لم تعد قادرة على الحركة بسبب كسر في عمودها الفقري، وجل ما تملكه اليوم هو طفل صغير يُدعى غيث، يحمل في عينيه ما تبقّى من حلمٍ مهشم.
حين سألناها عن غيث، قالت بصوت متعب تغلّفه الدموع: هو الضوء الوحيد الذي أبصره الآن… هو المعجزة التي أبقتني على قيد الحياة.
ثم نظرت إليه طويلاً كما لو كانت تستمد منه نبضها المتبقّي.
وبينما تنظر مريم إلى طفلها، استذكرت كلمات الشاعر أشماوي التي حفرت مكانها في قلبها:
ستنبت الأشجار الوفية من جديد، تطرح ما هو ميت حين يحيا الصبر،
وتتفتح أرض المحبة القاحلة، ويأتي الغيث بعد القحط.
هذه ليست قصة فردية فحسب، بل هي مرآة لعشرات النساء في غزة، حيث تُظهر الإحصائيات أن أكثر من 50 ألف امرأة حامل كنّ عرضة للخطر المباشر خلال الهجمات الأخيرة، وأن 14% منهن ولدن في ظروف غير آمنة، منها تحت الأنقاض أو في ملاجئ مؤقتة.
مريم لم تخسر منزلها فقط، بل فقدت الإحساس بالأمان، لكنها كسبت طفلًا يُعيد تعريف الأمل في حياتها. وهي تقول، مختتمةً حديثها: غيث اسمه… والغيث لا يأتي إلا بعد انقطاع طويل، وأنا كنت على وشك الانتهاء.
ولأن الحياة لا تنتهي تحت الأنقاض، كان غيث — الطفل — هو الغيث الحقيقي الذي أعاد الحياة لمريم بعد أن ظنّت أنها انتهت. قصة ولادة في زمن موت، وانتصار أمل وسط كل هذا الخراب.