ماذا سنأكل اليوم؟ رامي الطفل الذي التهمه الجوع في غزة
كان جالسًا على كرسي بلاستيكي في مستشفى مصري، يطوي جسده النحيل فوق نفسه وكأن روحه تبحث عن دفء لا تجده. اسمه رامي، طفل من رفح لم يتجاوز الخامسة عشرة، بدا على وجهه شحوب الموت، وجفونه تنام من التعب أكثر مما تنام من الراحة.
اقتربت منه وسألته عن حاله، فأجابني أحد أقاربه من مصر: رامي وصل إلى هنا بعد أن حملناه على أكتافنا من شدة الهزال، لا يستطيع المشي منذ أيام. كل ما يأكله قطعة خبز وجرعة ماء في اليوم، أمه كانت تقسم اللقمة بينهما.
منذ أن قُتل والده في قصف عام 2024، تحوّلت حياة رامي وأمه إلى معركة بقاء. كانت والدته تخرج كل صباح تبحث عن طحين أو ماء أو فتات من المساعدات. في غزة المحاصرة، ارتفعت أسعار الطعام بشكل جنوني، والخبز أصبح أمنية.
سألته بهدوء: ما ألذ وجبة أكلتها في حياتك؟
أجاب بصوت خافت يكاد لا يُسمع: أيامها… لما وصلت قافلة مساعدات، حصلت على كيس رز وعلبة فاصوليا… وأكلت بسكويت.
كان يصف ذلك وكأنه يروي قصة عيد. لمع في عينيه نور خفيف، لكنه تلاشى سريعًا خلف غيمة الجوع.
لاحظت أنه بالكاد يحرّك أطرافه. قال أحد الأطباء: رامي يعاني من فقر دم حاد، وتلف في العضلات نتيجة الجوع المزمن. كنا على وشك فقده.
تم نقله من غزة إلى مصر بصعوبة، بعدما أصبح غير قادر على الوقوف، وبدأت حالته تتحسن تدريجيًا مع التغذية الوريدية.
أصعب شيء؟ إنك تسمع بطنك يصرخ… وما معك تسكته،
قالها رامي ذات مرة، وكانت أصدق من كل الأرقام والتقارير.
وفي لحظة صمت ثقيلة، اقتربت منه والدته وهمست في أذنه: سامحني يا ابني… ما قدرت أطعميك، بس والله حاولت.
كان الصمت بعدها أبلغ من أي بكاء.
في مشهد آخر، قال أحد المتطوعين: رامي لم يكن يطلب طعامًا… كان يطلب كرامة، أن لا يمدّ يده، بل يأخذ ما يكفيه ليعيش فقط كإنسان.
وكأن حاله يردد كلمات الشافعي:
اصبر على مرِّ الجفا من معادن الناس
فإنّ تُرابًا يُغنيك خيرٌ من ذهبٍ يُذلُّك
حسب منظمة الصحة العالمية، فإن أكثر من 80% من أطفال غزة يعانون من سوء تغذية بدرجات متفاوتة، وبعضهم فقد القدرة على النمو الجسدي أو العقلي الطبيعي. في عام 2023 وحده، تم تسجيل 14,000 حالة حادة بين الأطفال تحت سن الـ15.
حين سألته ماذا يتمنى، قال ببساطة: أني أرجع آكل طبيعي، وأركض شوي زي قبل.
ثم ابتسم، وكأن الأمل لديه عنيد لا يموت بسهولة.
وقد قالها أحد الحكماء الفلسطينيين قديمًا: من لا يملك خبزه، لا يملك صوته. وربما هذا ما كانت غزة تصرخ به في وجه العالم كله.
هذه ليست قصة جوع فقط، بل قصة كرامة تُداس كل يوم في غزة، ومع ذلك يبقى الأطفال مثل رامي، يحملون داخل أجسادهم الصغيرة قلوبًا كبيرة تتشبث بالحياة، وتُصر على الأمل.