وحدي في الظلام – من غزة
حين يُقصف المنزل، لا ينهار فقط… بل تسقط حياة كاملة
كان الليل هادئًا في حي خان يونس جنوب غزة، لكنه كان الهدوء الذي يسبق العاصفة. في غرفة صغيرة متقشفة، نام الطفل أنور بجانب والدته وإخوته، بينما خرج والده للحظات بحثًا عن بعض الخبز والماء. لم يكن أحد يعلم أن تلك الدقائق القليلة ستكون الفاصلة بين الحياة والموت.
أنور، ابن التاسعة، يروي بصوته المرتجف: “سمعت صوتًا عاليًا جدًا… كأن السماء انفجرت. بعده صار كل شيء أسود. ما قدرت أتنفس. ما شفت شي. حسيت بألم في رجلي… وبكيت، لكن صوتي ما طلع.”
“كنت أصرخ: ماما! بابا! بس ما في حد يرد. كنت لحالي.”
بقي أنور محاصرًا تحت الركام لأكثر من 72 ساعة، دون طعام، دون ماء، دون حتى ضوء. جسده النحيل احتُجز بين الحديد والخرسانة، وبدأ وعيه يضعف تدريجيًا، حتى سمع صوتًا بعيدًا: “في صوت من تحت!”
عندما انتُشل، كانت ساقه مدمّرة، ووجهه مغطى بالدم والتراب. نُقل إلى مشفى ميداني مؤقت، حيث جلس وحيدًا على سرير معدني متهالك، لا يسأل إلا عن أمه وإخوته. أحد المسعفين أخبره: “ما في حدا، يا حبيبي. نحنا معك… الله معك.”
أنور لم يبكِ حينها، بل صمت. لكن عينيه قالتا كل شيء: وجع، فقد، عزلة، وخوف لا حدود له. الطبيب الذي أشرف على علاجه أخبرنا أن صمت أنور أشد من أي صراخ سمعه من أطفال الحرب.
بعدها تم نقله إلى مستشفى في القاهرة عبر الهلال الأحمر، وهناك التقيته. كان يجلس على كرسي متحرك، ينظر إلى الأرض. عندما حاولت الحديث معه، همس دون أن يرفع عينيه: “ليه أنا بس اللي بقيت؟”
“أحيانًا أتمنى لو بقيت تحت الركام معهم.”
أخبرني أنه ما زال يسمع صوت الانفجار في أذنه كل ليلة. أنه يتخيل أمه وهي تغطيه بالبطانية. أنه يخاف النوم لأنه يرى الركام وهو يسقط عليه مرارًا. لم أجد كلمات أواسيه بها… فكيف تواسي من فقد عالمه؟
أنور ليس مجرد طفل نجا من قصف. أنور هو وجه لآلاف الأطفال الذين لا تظهر صورهم، ولا تُسمع أصواتهم. هو صورة مصغرة لوطن بأكمله يُقصف كل يوم، ليس فقط بالصواريخ… بل بالصمت العالمي.
قبل أن أودعه، سألته: “شو نفسك تعمل لما ترجع غزة؟” قال بابتسامة باهتة: “أبني بيت تحت الأرض، ما يوصل له ولا صاروخ.”
غادرت الغرفة، وأنا أشعر أن جزءًا مني بقي هناك… تحت الأنقاض، بجانب أنور.