شظايا الذاكرة: جدة وحفيدة على طريق النزوح من الجنوب إلى المجهول

شظايا الذاكرة: جدة وحفيدة على طريق النزوح من الجنوب إلى المجهول

كنا ننتظر في مطار إسطنبول حين لمحت سيدة خمسينية تجلس بصمت، إلى جوارها طفلة لا تتجاوز السابعة. نظراتها الزجاجية كانت تقول كل ما لم تستطع الكلمات أن تبوح به. اقتربت منها وسألت إن كانت ترغب في الحديث، فهزّت رأسها والدمعة تسبق الإجابة.

اسمي أم نسرين، من بنت جبيل، جنوب لبنان، قالت بصوت خافت، وأضافت: فقدت زوجي وابني وبنتي في ضربة واحدة. بقيت وحدي مع حفيدتي نسرين. لم يعد في القلب متّسع للوجع، لكنه لا يتوقف.

رحلة هروبها بدأت من منزلها الذي تحول إلى ركام. لم أجد إلا نسرين تحت الغبار، كانت تبكي وتبحث عن أمها، قالت وهي تنظر إليها وكأنها تتشبث بها لتنقذ ما تبقّى من الحياة.

عبرت إلى دمشق بعد أيام من الانتظار على الحدود، ثم دخلت تركيا برفقة قريب، بحثًا عن مأوى، أو نقطة أمان في هذا الكون. لكنها لم تجد شيئًا سوى خوف أكبر وقلق أعمق.

أنا مريضة بالسكري والضغط… وأخشى أن أرحل قبل أن أؤمّن مستقبلها، همست أم نسرين، وهي تشدّ على يد نسرين الصغيرة، التي كانت تلعب أمامها بهدوء غريب وكأنها لا تزال غريبة عن هذا العالم.

مشهد الطفلة وهي تلتصق بجدتها في صالة الانتظار أعاد إلى ذهني قول محمود درويش:

أحنّ إلى خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي…
تكبر فيّ الطفولة، يوماً على صدر يوم.

حين سألت أم نسرين: إلى أين وجهتكم؟ قالت بتنهيدة: إلى أقارب في إسطنبول… ربما أترك نسرين عندهم. أشعر أن أيامي شارفت على النهاية، وأخشى أن أنام ولا أستيقظ وهي بجانبي.

في لحظة صمت ثقيلة، نظرت إلي وقالت: لا أطلب شيئًا… فقط أن تعيش نسرين في بيت، وتذهب إلى مدرسة، وتضحك. لا أريد لها أن تحفظ هذا الوجه الحزين عني.

مشهد الجدة والحفيدة لم يكن استثناءً. بل هو مثال يتكرر في كل رحلة نزوح. خلف كل يد تمسك بطفل، حكاية ممتدة من بيتٍ قُصف، إلى قلبٍ انكسر، إلى مستقبل ضبابي.

ربما نسرين لا تفهم الآن معنى اللجوء، ولا تدرك حجم الفقد. لكنها ستتذكر حضن جدتها، ونظرتها، وكلماتها الأخيرة قبل أن تفترق الطرق. لأن الذكريات أحيانًا… هي آخر ما يتبقى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *