الصحفي الصغير: جلال الذي كتب ألمه قبل أن يتعلّم القراءة

الصحفي الصغير: جلال الذي كتب ألمه قبل أن يتعلّم القراءة

في أحد المخيمات شمال لبنان، تحت سماء رمادية وصقيعٍ قاسٍ، تجلس هدى على فراش رقيق، تتنفس بصعوبة، وتبتسم لطفل صغير لا يفارقها. اسمه جلال، ابنها الوحيد، لا يتجاوز الثامنة من عمره، لكنه يحمل على كتفيه عبء رجل كبير.

كل يوم أصحى بخاف ألاقيها مش قادرة تقوم، يقول جلال وهو يخبئ وجهه في بطانية والدته، أنا اللي بروح أشتغل… بجيب دوا. يعمل جلال أحيانًا في مزارع قريبة، يجني ما تيسر من المال لشراء دواء والدته التي تعاني من مشكلة قلبية حادة.

حين تحدثت هدى قالت: ابني صار رجل قبل أوانه… هو اللي بيطبخ، وبيشوف حالنا… وأنا قلبي عليه أكثر من مرضي نفسه. نظرت إليه، ثم أضافت: جلال نفسه يصير صحفي.

حين سمعني أحمل كاميرا، اقترب وقال: أنا ممكن أعمل مقابلة؟ فأعطيته الميكروفون وسألته: شو حابب تحكي؟ فأجاب بصوته الطفولي الممزوج بشجاعة نادرة: أنا جلال، أجينا من بيروت على المخيم، ماما مريضة، وأنا ما بخاف، بشتغل، وبدي أصير صحفي، عشان أحكي قصص الناس.

كان المشهد إنسانيًا مُبكيًا… طفل لا يزال يتعلّم القراءة، لكنه كتب أولى فقرات حياته بالكد والتعب. مشهد جلال ووالدته يعكس واقع آلاف الأطفال اللاجئين الذين كبروا في الظل، وهم يحلمون بأن يكون لهم صوتٌ في النور.

وكأن صوته يُردد مقولة غسان كنفاني:

ليس صغيرًا من يحمل همّ وطنه… الصغير هو من لا يعرف أن يحلم.

بحسب تقارير المفوضية السامية، فإن أكثر من 58% من الأطفال اللاجئين في لبنان يعملون لإعالة أسرهم، وغالبًا في بيئات خطرة أو غير مناسبة لأعمارهم.

جلال لم يكن يطلب ألعابًا، بل كان يطلب كاميرا، ودفترًا، ونافذة على العالم. أنا بدي أصوّر وجع ماما، وأفرجي العالم كيف إحنا عايشين، قالها وهو يلمس الميكروفون كأنه كنز.

لم أستطع إلا أن أعده، أن أحكي قصته، كما تمنى، وأن أُرسل صوته للعالم. ربما لا يملك جلال أوراق اعتماد صحفية، لكن قلبه ومحبته ووعيه… أكبر من ألف تصريح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *