بلا صوت: ميس الصغيرة التي خنقتها الحرب فاختارت الصمت
كانت في السابعة من عمرها حين رأته يسقط أمامها. لم تكن تعرف ماذا يعني “قصف” أو “شهيد”، لكنها عرفت في لحظة واحدة أن شيئًا انكسر إلى الأبد. اسمها ميس، وكانت تملأ البيت ضحكًا قبل أن تختنق الكلمات في حلقها إلى الأبد.
من يومها، ما حكت ولا كلمة،
تقول والدتها بصوت مبحوح. لا بتضحك، لا بتبكي بصوت، بس عيونها بتحكي كل شي.
في بداية القصف على غزة، اختبأت العائلة في غرفة واحدة. حين سقط الصاروخ، قُتل والد ميس مباشرة، وتناثرت الدماء على الجدار. ميس كانت بجانبه. ما صرخت، بس مسكت إيده وبقيت تطلع فيه، وكأنها ما صدّقت،
تضيف والدتها.
منذ ذلك اليوم، دخلت ميس في صمت مطلق. لم يعد أحد يسمع صوتها، حتى في اللعب. أحيانًا تغني همسًا لنفسها، لكن ما بتتكلم معنا،
تقول أختها الكبرى.
زارها أطباء نفسيون. قال أحدهم: ميس تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، لكن الصمت خيارها الدفاعي. هي بتحاول تحمي نفسها بالصمت.
ومن بين العبارات التي دوّنها الطبيب في تقريره: “ميس ليست بحاجة إلى دواء فقط، بل إلى أمان مفقود لا دواء له.”
خطر في بالي قول الشاعر محمود درويش:
الصمت في حرم الجرح… جريمة أخرى.
ميس الآن في العاشرة، تجلس لساعات طويلة تحدّق في الفراغ، أو ترسم وجوهًا بلا أفواه. كل رسوماتها فيها ناس ما بيحكوا،
تقول والدتها.
في غزة، هناك آلاف الأطفال مثل ميس، لا تُحتسب جراحهم في التقارير، ولا تظهر في الصور. جراح لا تنزف دمًا، بل تصمت… وتستمر.
سألتها ذات مرة بالإشارة: بدك تقوليلي شي؟
فهزّت رأسها، ثم كتبت على دفترها: بابا راح… وأنا بعده راح صوتي كمان.
هذه ليست مجرد قصة فتاة صامتة… بل قصة جيل كامل اختنق صوته، وما زال ينتظر أن يسمعه أحد.